تعيش مدينة سلا كل عام على إيقاع احتفالية روحية متميزة تتمثل في موكب الشموع الذي يقام بمناسبة المولد النبوي الشريف، حيث تتحول المدينة القديمة إلى فضاء للفرح الجماعي والاحتفاء بالمحبة النبوية في مشهد يجمع بين الأصالة والرمزية الجمالية. هذا التقليد الراسخ يعود بجذوره إلى قرون مضت، حين جرى تنظيم المواكب الأولى في عهد الدولة السعدية، قبل أن يحافظ على استمراريته بفضل الزاوية الحسونية التي جعلت من ضريح سيدي عبد الله بن حسون نقطة محورية لهذه الاحتفالية.
يُنظر إلى الموكب باعتباره تعبيرًا عن الارتباط الروحي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث تُحمل الشموع العملاقة المزينة بدقة بالزخارف الإسلامية لتجوب شوارع المدينة في أجواء يغمرها الإنشاد والمديح، وتتخللها لحظات وجدانية عميقة تستحضر النور المحمدي. ويتحول المشهد إلى كرنفال روحي وجمالي بامتياز، إذ تلتقي الموسيقى الأندلسية وفنون السماع الصوفي مع الأهازيج الشعبية، فيتجاوب الحاضرون مع الطقوس بحبور جماعي يعكس عمق الروابط الروحية.
صناعة الشموع في حد ذاتها فن تراثي عريق، يجري تناقله من جيل إلى جيل، حيث يتم إعداد الشموع بدقة عبر مراحل متعددة تبرز حسًّا إبداعيًا أصيلًا. هذه الشموع ليست مجرد وسائل إنارة رمزية، بل تمثل تجسيدًا لفكرة النور الإلهي والهدى، وهو ما يضفي على الموكب بعدًا صوفيًا وروحيًا عميقًا. كما تظل رقصة الشمعة إحدى اللحظات البارزة التي تجسد عبر الحركة والإيقاع احتفاءً رمزياً بالهدي النبوي.
لا يقف الموكب عند البعد التعبدي فقط، بل يشكل أيضًا مناسبة اجتماعية وثقافية كبرى، حيث يلتقي السلاويون وزوار المدينة في أجواء احتفالية تؤكد على وحدة الذاكرة المشتركة. يشارك في الاحتفالية أهل الزوايا والطرق الصوفية وفرق موسيقية من مختلف المدن، مما يمنحها بعدًا وطنيًا يتجاوز الحدود المحلية. كما تنخرط الفئات الشابة والأطفال في أنشطة تربوية موازية، من ندوات ومعارض صور وورشات، ما يساهم في نقل هذا الموروث إلى الأجيال الصاعدة.
الاحتفال بموكب الشموع يبرز أيضًا صورة سلا كمدينة ضاربة في التاريخ، جمعت بين العلم والتصوف والفنون، وجعلت من التراث وسيلة لتعميق الوعي بقيم التسامح والتعايش. فهو طقس متجذر يعكس التفاعل بين الدين والبعد الجمالي والفني، ويُظهر كيف صاغ المغاربة أسلوبهم الخاص في التعبير عن المحبة للنبي. وفي كل دورة جديدة، تواصل هذه التظاهرة تعزيز مكانتها كجسر بين الماضي والحاضر، وبين الروحانية والجمال، لتظل سلا بذلك حارسة لتقليد فريد يمثل أحد أعمدة الهوية الروحية والثقافية للمغرب.