من القداسة الدينية إلى الأيقونة السياسية: تحولات دلالة “الشهيد”

أضيف بتاريخ 08/14/2025
دار سُبْحة


يتناول المقال مسار مفهوم “الشهيد” وتحولاته بين المرجعية الدينية والبناء السياسي الحديث. في جذوره الأولى داخل الديانات التوحيدية، ارتبط المصطلح بالتضحية في سبيل الإيمان وترسّخ عبر سرديات الاضطهاد والنماذج المؤسسة؛ فالمسيح صار أيقونة مقدسة بفعل الصلب وآلام الخلاص، وفي التجربة الإسلامية المبكرة ظهر الشهداء الأوائل بوصفهم ثمرة مباشرة لمواجهة الدعوة الجديدة لعداء ديني واجتماعي. هذا الرصيد الرمزي الديني تمدّد مع الزمن عبر قديسين وأتباع وقفوا أمام التعذيب دون تبديل، غير أن تيارات غالية في تقاليد شتى أعادت توظيف المفهوم خارج اعتداله، ففتحت مسارات تأويلية باطلة ومنحَت العنف مشروعية خطابية تتناقض مع مقاصد الرسالات.

مع نشوء الدولة الحديثة اكتسبت الشهادة بعدًا مدنيًا-وطنيًا؛ أصبحت “الموت من أجل الوطن” صيغة عليا للولاء العام، وانعكس ذلك في الذاكرة الرسمية من خلال النُصُب التذكارية وطقوس الجندي المجهول ومنح الأوسمة. في هذا الإطار، رسّخت حركات التحرر ومقاومة الاستعمار صورة “الشهيد الوطني” الذي يمتزج دمه بسردية التحرر، كما في الأمثلة المتداولة عن “أرض المليون شهيد” أو الرموز المقاومة التي جُسّدت بطولاتُها كمرجعية جامعة. هنا يتقاطع الرمز الديني مع الوطنية الحديثة في بناء شرعية التضحية، فتتم أسطرة الفقد الفردي ضمن معنى جمعي أعلى.

لكن هذا الاتساع حمل إشكاليات حادة حين انتقل المفهوم إلى سياقات الحروب الأهلية والصراعات المذهبية داخل المجتمع الواحد. إذ يظهر تناقض لا يمكن فصله بين “الأنا” و”الآخر”: كل طرف يثبت عدالة قضيته ويرفع قتلاه إلى مرتبة الشهداء، بينما يُسقط الاعتراف عن ضحايا الطرف المقابل، فتتشكل ذواكر متوازية ومقابر وشعائر متباينة داخل الحيز الوطني ذاته. هذا النمط ليس جديدًا؛ فقد خبرته أوروبا في صراعات الكاثوليك والبروتستانت، كما عرفته بلدان عربية وإسلامية في مواجهات داخلية ممتدة، ثم عاد في صوره المعاصرة عبر أدوار ميليشيوية وعابرة للحدود تُنتج خطابًا تعبويًا يوعد أتباعه بمراتب الغفران والجنة ويمنح “شهادة” رمزية تُحسم بها شرعية القتال والانتماء.

 

يعتمد هذا المقال على عمود “الشهيد من القداسة الدينية إلى الأيقونة السياسية” للكاتب بدر عبدالملك المنشور في صحيفة الأيام البحرينية، العدد 10182، بتاريخ 23 فبراير 2017.