في هذا المقال نعرض قراءة فكرية لرؤية الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري حول تداخل الدين والسياسة في الغرب والشرق، وكيف تنعكس جذور المسيحية واليهودية والإسلام على حاضر الصراعات من غزة إلى الجامعات الفرنسية. يعتمد النص على مقابلة مرئية منشورة على قناة «Mosaïque» تحت عنوان «Michel Onfray : Le christianisme et l’Islam se sont constitués dans la haine des Juifs» ويمكن مشاهدة الحوار مياشرة على يوتيوب
يرى أونفري أن فهم الحاضر يقتضي العودة إلى نشأة الأفكار والمؤسسات الدينية والفلسفية التي صاغت «الحضارة الغربية» في تداخلها مع الإرث اليوناني-الروماني والكتاب المقدّس؛ فالمسيحية، في قراءته، تشكّلت تاريخياً في توتر مع اليهودية ثم واجهت الإسلام الناشئ لاحقاً، فيما سعى كلّ طرف إلى تثبيت سرديته العقدية والسياسية. هذه الجدلية القديمة، برأيه، تظل مؤثرة في العلاقات بين إسرائيل وفلسطين، وفي تمثّلات الغرب للصراعات الراهنة، وفي تصاعد خطاب الهوية ومعاداة السامية داخل بعض الفضاءات الثقافية.
على المستوى الجيوسياسي، ينتقد أونفري الطروحات التبسيطية التي تختزل حل مأزق غزة في وعود اقتصادية؛ فالقيم المادية لا تكفي بمفردها لتغيير قناعات راسخة لدى جماعات مسلّحة أو مجتمعات مجروحة بالحرب. يشير إلى أن منطق مكافحة حركات مثل حماس عبر تدخلات خارجية مباشرة يقود غالباً إلى حروب استنزاف داخل بيئات حضرية معقّدة، حيث تمتزج البنية التحتية تحت الأرض بالمدنيين والمقاتلين، ما يجعل «الحسم الخاطف» غير واقعي. ويستحضر دروس فيتنام وأفغانستان لتبيان حدود التفوق التقني أمام حروب العصابات والإرادة القتالية.
يؤكد أيضاً أنّ العلاقة الإسرائيلية-الأميركية محكومة بميزان القوة والديموغرافيا والمصالح، مع تقلبات داخلية أميركية قد تُضعف رصيد الدعم. وفي أوروبا، يتحدث عن ارتباك استراتيجي وتآكل القدرات العسكرية الموحدة، بما يفاقم هشاشة الموقف الغربي في لحظة عالمية تتجه إلى إعادة التسلّح وتصاعد منافسات القوى الكبرى. هنا يطرح أونفري فكرة «الانحدار الذاتي» للحضارات حين تفقد حبّها لذاتها وثقتها بقيمها، فتفسح المجال لآخرين لملء الفراغ.
أما ثقافياً، فينتقد مشاهد التهويل أو التبرير للعنف في بعض الجامعات، ويرى أنّ «أزمة المعايير» تسمح بخطاب هووي حاد يخلط بين مناهضة الإمبريالية ومعاداة السامية، ويستدعي سرديات اقتصادية تُحمّل «الرأسمال» دلالات إثنية مختزِلة. يدعو بدلاً من ذلك إلى قراءة نقدية متوازنة للنصوص التراثية الإسلامية واليهودية والمسيحية ولأعلام الفكر مثل ابن رشد، بعيداً عن الأسطرة أو الشيطنة، وبالعودة إلى النصوص الأصلية ومعايير البحث الصارمة.
في محور التاريخ الفكري، يعرض أونفري تصوّراً لحظة تشكّل «العالم اليهودي-المسيحي» بوصفه منطقة تراكب لا تطابق، حيث يتقدم «الشرط التاريخي» على التصنيفات السهلة: تقاطعات، قطيعات، ومجالس عقائدية رسّخت أرثوذكسية مسيحية في مواجهة تنوعات لاهوتية، بينما كان تدوين التلمود يجري في ظل بزوغ المسيحية، ثم جاء الإسلام في القرن السابع ليطرح منظومة توحيدية ثالثة. هذه الشبكة من النصوص والمؤسسات والصراعات أسست لأطر ذهنية ما زالت تؤثر في السياسات المعاصرة.
من منظور اجتماعي أخلاقي، يحذّر من تحويل «السياسة الأخلاقية» إلى تفويض للغرائز الجمعية أو إلى تصنيفات تختزل الأفراد في هويات عرقية ودينية، إذ يفتح ذلك الباب أمام تبريرات للعنف والتمييز. ويوصي بإحياء فضاء مدني يستند إلى القانون والبحث الحرّ ومناقشة الاختلافات دون وصم جماعي أو خطاب كراهية، مع الاعتراف بحساسية قضايا إسرائيل وفلسطين وضرورة حماية المدنيين وحقوق الإنسان.
في المحصلة، يقترح أونفري أن التخفيف من حدّة الصراعات يمرّ عبر ثلاث مسارات متزامنة: إعادة بناء معرفة تاريخية رصينة حول المسيحية واليهودية والإسلام بعيداً عن الكليشيهات؛ صياغة سياسة واقعية تدرك حدود القوة في ساحات حضرية معقّدة مثل غزة؛ واستعادة ثقة المجتمعات الغربية بقيمها المدنية كي لا تقع في فخّ الانتحار الثقافي أو الاستعراض الأخلاقي. بهذه العدسة، تتحول المقابلة إلى دعوة للقراءة والنقاش بدل الاصطفاف الهوياتي، وإلى البحث عن حلول تُقدّم الحياة والكرامة على حساب الشعارات.


