شهد العالم خلال العقود الأخيرة عودة قوية للدين في المشهدين الوطني والدولي، إذ طرأت موجات متزايدة من التشدد والنزعات الدينية التي باتت تؤثر بعمق في التوازنات الجيوسياسية العالمية. يميز الباحث مصطفى السحيمي بين شكلين أساسيين لهذا الحضور الديني: الشكل الأول هو التيارات التقوية التي تركز على التشدد في الممارسة الدينية والحفاظ على الهوية العقائدية من دون الانخراط المباشر في الشأن السياسي. يبرز هذا النمط لدى التقليديين الكاثوليك والسلفية في الإسلام واليهود الأرثوذكس، وغالبًا ما ينحصر دورهم في نشر إيمانهم والتمسك بسلوكيات صارمة بعيدًا عن مشاريع سياسية مباشرة
الشكل الثاني يتمثل في التيارات الدينية الحركية أو الناشطة، وهي تذهب أبعد من مجرد التشدد الطقوسي، وتسعى لإضفاء بعد سياسي واضح على الممارسة الدينية، حتى تبلغ حد السعي لتغيير قواعد اللعبة السياسية والاجتماعية. يضرب الكاتب مثلاً بالإنجيليين في الولايات المتحدة المدعومين من الحزب الجمهوري، وحركات كالإخوان المسلمين والنزعة الدينية القومية في إسرائيل. مثل هذه الحركات لا تكتفي بالمحافظة على مجتمعها، بل تسعى إلى التأثير في الشأن العام وصنع القرار ومؤسسات الدولة وعبرها في السياسة الدولية.
يؤكد السحيمي أن التيارات التقوية لا تنعدم صلتها بالكامل بالسياسة، فقد شارك السلفيون مثلًا في الانتخابات المصرية بعد ثورة 2011 وكانت لهم كتلة برلمانية مؤثرة، إلا أن هدفهم يظل غالبًا حصر المكاسب في الدفاع عن نموذج حياتهم دون السعي لقلب النظام. بالمقابل، تتبنى التيارات الحركية أجندة سياسية صريحة: كالمخطط الاستيطاني للسلفية الوطنية في إسرائيل أو الضغط الإنجيلي في السياسات الأمريكية الخارجية والاجتماعية.
يعتمد النفوذ الديني بشكل ملحوظ على احتلال الفراغات الاجتماعية حيث يغيب دور الدولة، من خلال مؤسسات خيرية وتعليمية وصحية، ويُترجم هذا الرصيد المجتمعي غالبًا إلى رأسمال سياسي أنتج حواضن انتخابية قوية. يسلّط السحيمي الضوء على توسع البروتستانتية الإنجيلية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتنامي حضور الإسلام في أوروبا بنتيجة الهجرة، وتطور دور الهندوسية سياسيًا في الهند بقيادة مودي، بينما يظل الطابع السياسي للديانة اليهودية محدود الانتشار الخارجي لكنه قوي في الداخل الإسرائيلي.
يشدّد الكاتب أخيرًا على أن العامل الديني، رغم عودته القوية، ليس الوحيد الذي يفسر التحولات الكبرى للنظام العالمي الجديد، إذ لا تزال العوامل الاقتصادية والسياسية والنزاعات والصراعات الجيوسياسية حاضرة بقوة. غير أن الإخفاقات المتكررة للأيديولوجيات العلمانية والفراغ الروحي في المجتمعات جعلا الدين يُستعاد أداةً تعبئة قوية في الداخل والدبلوماسية الدولية، ما يجعل التعامل معه ضروريًا لفهم تحولات العالم المعاصر.


