قبل اثني عشر عاماً، اختفى الأب باولو دالّوغليو في ظروف غامضة بمدينة الرقة السورية، وسط واحدة من أكثر الفترات دموية وتعقيداً في التاريخ الحديث للمنطقة. كان الأب باولو، الراهب اليسوعي الإيطالي، أكثر من مجرد رجل دين محبوب؛ كان رجل حوار وثقافة، سعى بعناد إلى بناء جسور بين المسيحيين والمسلمين في أخطر بقعة من الشرق الأوسط الحديث، وتحوّل مع مرور الوقت إلى رمز للمصالحة والأمل في أرض أنهكتها الصراعات.
بدأت رحلة باولو في سورية مع إعادة إحياء دير ديـر مار موسى الحبشي التاريخي، الواقع وسط الجبال السورية شمال دمشق. بذل جهداً كبيراً في ترميم الدير الذي ظل مهجوراً لقرون، وحوّله إلى مركز روحي وثقافي حيّ يحتضن الزوّار من كل أنحاء العالم، بغض النظر عن دينهم أو خلفيتهم. كان هذا الدير مختبراً فعلياً للتعايش والتسامح، ودعوة صريحة إلى الحوار بين المسلمين والمسيحيين خارج سياقات السياسة المتوترة.
لم يكن الأب باولو رجل عزلة ولا باحثاً عن النجاة في ركن هادئ من الجبال، بل كان حاضراً دائماً في قلب الأحداث المتسارعة منذ بداية الانتفاضة السورية عام 2011. أيّد الحراك الشعبي السلمي ودافع عن حقوق الإنسان، غير آبهٍ بالمخاطر التي تهدد حياته وحياة الذين يعملون معه. تحدث بلغات متعددة، وجمع حوله الشبان والشابات المتعطشين إلى مجتمع منفتح وآمن. بفضل خطابه التقدّمي الجسور، حظي باحترام الكثيرين حتى بين المختلفين معه في المعتقد والفكر.
مع التصاعد الدامي للعنف داخل سورية وظهور الجماعات المتطرفة، أصبح بقاء الأب باولو في البلاد مجازفة بمعناها الكامل. ورغم الضغوط المتزايدة من السلطات وبعض الأطراف الغربية التي نصحته بالمغادرة حفاظاً على حياته، رفض الرحيل مشدداً على التزامه الأخلاقي والإنساني تجاه السوريين، مسلمين كانوا أم مسيحيين. كان يرى رسالته أكبر من الخوف وأعمق من الاعتبارات السياسية.
في نهاية يوليوز 2013، وبينما كان يُجري وساطات مع مجموعات معارضة للإفراج عن مخطوفين، تم اختطافه في الرقة على يد تنظيم الدولة الإسلامية، ما أحدث صدمة كبيرة داخل سورية وخارجها. لم تظهر منذ ذلك الحين أي معلومات مؤكدة عن مصيره، رغم الحملات الدولية والجهود الدبلوماسية المكثفة التي طالبت بالكشف عن مكانه أو بالإفراج عنه إن كان لا يزال على قيد الحياة.
ومع مرور السنوات، لم يخفت ذكر الأب باولو ولا ضاع إرثه. على العكس، يستحضر السوريون -مسيحيين ومسلمين- سيرته كواحد من الأصوات النادرة التي تراهن على التلاقي في زمن الطوائف والأسلاك الشائكة. تحوّل دير مار موسى ومشاريعه الاجتماعية إلى أيقونة رمزية تصمد أمام اليأس، وصار ذكراه تُحتفل بها سنوياً رغم القيود والمخاطر الأمنية. وفي العام الجاري، وبإشارة بارزة، سُمح بإقامة فعاليات علنية للإشادة بدوره تحت أشجار الزيتون التي زرعها بنفسه في قلب الوادي السوري.
إرث الأب باولو يتجلى اليوم في البعد الإنساني للحوار الديني، وفي فكرة أن سورية ذاتها يمكن أن تكون يوماً ما موطناً للسلام رغم الألم والجراح. قصته تلخص تجربة إنسانية تتحدى العنف والتطرف، وتُحفر في ذاكرة أجيال تبحث عن معنى للعدالة والرحمة في أعقد بقاع العالم.


