المنفى الذي أنشأ ذكرى: كيف تحوّل إبعاد الشيخ أحمدو بمب إلى طقس "مغال" في السنغال

أضيف بتاريخ 08/12/2025
دار سُبْحة


يرتبط مغال طوبى، أحد أبرز المواسم الدينية في السنغال، بحدث تاريخي محوري هو نفي الشيخ أحمدو بمب (المعروف بسيرين تُوبا) على يد الإدارة الاستعمارية الفرنسية أواخر القرن التاسع عشر. لم يكن هذا النفي مجرد إجراء إداري بحق عالم صوفي مؤثر، بل لحظة تأسيسية أعادت تشكيل الوعي الديني والاجتماعي لدى أتباع الطريقة المريدية، وحولت الألم الفردي والجماعي إلى طقس سنوي للاعتراف بالنعمة والوفاء للمبدأ.

ولد الشيخ أحمدو بمب في سياق سياسي مضطرب، حيث كانت فرنسا تُحكم قبضتها على أقاليم السنغال وتتوسّع في الإدارة والسيطرة. برز الشيخ كمصلح ديني وصوفي أسّس الطريقة المريدية على مبادئ التزكية، الانضباط، والعمل. ومع تنامي نفوذه الروحي والاجتماعي، قرأت الإدارة الاستعمارية في مشروعه بُعداً سياسياً محتملاً رغم سلميته المعلنة. أدى هذا المناخ إلى اعتقاله ونفيه أولاً إلى الغابون عام 1895 ثم لاحقاً إلى موريتانيا، في تجربة قاسية جسدياً وروحياً.

تحول المنفى إلى مساحة لصياغة معنى جديد للابتلاء والصبر. في سرديات المريدية، يُوصَف النفي بأنه امتحان إلهي رسّخ يقين الشيخ وثبّت مكانته في قلوب أتباعه. وظّف الشيخ محنته لتعميق أخلاق الطاعة لله وخدمة المجتمع عبر العمل المنتج، وجعل من الانضباط المهني طريقاً للسير إلى الله. هكذا بدأت تتبلور هوية مريدية ترى في الجهد اليومي والجدية الاقتصادية امتداداً للذكر والعبادة، لا مجرد وسائل معاشية.

عندما عاد الشيخ من منفاه، كان قد تكرّس رمزاً للصبر والنقاء الروحي، فانبثقت من تجربة النفي ذكرى سنوية أصبحت تُعرَف بالمغال. تميز الذكرى بكونها احتفاءً بالفضل والنجاة أكثر منها عزاءً في محنة الماضية؛ فهي تقلب معادلة الذاكرة من الحزن إلى الشكر، وتترجمها في ممارسات دينية واجتماعية واسعة. يحج الملايين إلى مدينة طوبى، حاضرة المريدية التي تشكل فضاءً رمزياً واقتصادياً، حيث يُعاد تأكيد قيم التضامن والانضباط والخدمة الجماعية.

يقدّم المغال اليوم مشهداً مركباً يجمع بين التعبّد والتنظيم الاجتماعي والاقتصاد الديني. فالتعبئة اللوجستية الهائلة لاستقبال الزوار، والخدمات القائمة على التطوع، وشبكات الضيافة والتكافل، كلها تعكس رأس مالاً اجتماعياً تراكم عبر عقود. كما أن الحضور الاقتصادي للتجار والحرفيين المرتبطين بالطريقة يبرز كيف اندمجت الأخلاق العملية في هوية المريدية. يتجاوز المغال كونه مناسبة دينية، ليصبح منصة لإظهار قدرة المجتمع على التنظيم الذاتي، وإعادة إنتاج القيم المشتركة عبر الأجيال.

يكتسب المغال أيضاً بعداً وطنياً وإقليمياً. في دولة متعددة الطرق الصوفية والتقاليد الإسلامية، يشكل هذا الموسم نقطة التقاء بين الدين والثقافة والهوية السنغالية المعاصرة. وعلى مستوى الساحل وغرب أفريقيا، يمثل نموذجاً لتديّن شعبي قادر على المزج بين الروحانية والعمل، وبين الذكر والحركة الاقتصادية. كما يثير اهتمام الباحثين في تاريخ الاستعمار وما بعده، لكونه مثالاً على كيفية تحويل القمع السياسي إلى طاقة رمزية مُؤسِّسة.