ابتعد النقاش في فرنسا عن روح قانون 1905 الذي كرّس حياد الدولة تجاه الدين، لصالح نزعة متزايدة إلى إقصاء المظاهر الدينية من الفضاء العام. على مدى 120 عاماً، ظل الجدل محتدماً حول معنى العلمنة وحدودها، كما يشرح المؤرخ البلجيكي فنسون جنان، عضو مجموعة «المجتمعات والأديان والعلمنة» (CNRS-EPHE) وصاحب كتاب «تاريخ فكري للعلمنة».
لم يكن قانون 1905 نصاً جامداً؛ فقد طوّعته الدولة سريعاً لتخفيف التوتر مع الكنيسة الكاثوليكية، وفي 1923 أُقرت شرعية «الجمعيات الأبرشية» برئاسة الأساقفة بعد مفاوضات مع الفاتيكان. هذه المرونة المبكرة تكشف أن العلمنة، كفصل بين الدولة والدين، ليست عقيدة مغلقة بل إطار قانوني قابل للتعديل بما يحقق التوازن بين الحرية والنظام العام.
في الثمانينيات، تغيّر المشهد. فشل مشروع قانون سافاري عام 1984 بشأن التعليم الخاص أشعل تعبئة واسعة وأعاد زخم الخطاب العلماني. بعد ذلك، فجّرت قضية «الحجاب» عام 1989 سجالاً شارك فيه مثقفون انتقلوا إلى ربط العلمنة بفكرة الجمهورية كقيمة جامعة، لا مجرد مبدأ قانوني. منذ تلك اللحظة، تداخلت ملفات المدرسة والهجرة والإسلام في خطاب واحد، وازدادت الضبابية بين ما هو تربوي وما هو هوياتي.
قانون 15 مارس 2004 الذي حظر «الرموز الدينية البارزة» في المدارس حدّد منعطفاً مركزياً. ورغم أنه لم يذكر قانون 1905، فقد رسّخ رؤية حصرية للعلمنة داخل المدرسة بوصفها «محراباً» محايداً. لاحقاً، توسّع الخطاب ليطال «اللباس والسلوك العلمانيين»، وصولاً إلى تجارب اعتماد الزي المدرسي الموحد التي تُقرأ كأداة توحيد قسري. هذا التصور يصنع «جمهورية المتشابه»، بينما لا يفترض الحياد أن يكون الجميع متطابقين.
التاريخ المدرسي يُظهر دقة الفصل بين الديني والسياسي. قبل قوانين فيري، حاول فيكتور دوروي في ستينيات القرن التاسع عشر توسيع التعليم العام ليشمل الفتيات. ومع قوانين 1881-1882، لم تُقصِ المدرسة الدين برمّته، بل حاصرت التوظيف السياسي للدين (الكهنوتية). حتى دروس «الأخلاق العلمانية» كانت تتضمن لدى بعض المعلمين «واجبات تجاه الله»، ما يعكس تنوعاً تربوياً لا يصطدم بمبدأ الحياد حين يُفصل بين المعرفة والتعبئة.
الواقع الراهن أشد قسوة بعد اغتيال المدرّس صامويل باتي في 16 أكتوبر 2020، وما تلاه من قانون «تعزيز احترام مبادئ الجمهورية». في مناخ كهذا، يبدو صوت جول فيري الداعي إلى التبصّر والحوار أقل مسموعية. لكن من الضروري التذكير بأن العلمنة ليست أداةً لحل كل المعضلات الاجتماعية؛ وظيفتها القانونية محددة، وأي تمديد وظيفي لها على حساب الحقوق والحريات يفضي إلى خلطٍ بين المجال العام والمجال الخاص ومجال الدولة.
سياسياً، انتقلت بوصلة جزء من اليسار من «علمنة ليبرالية/جامعة» دافع عنها ميشال روكار وآخرون إلى خطاب أكثر صرامة مع الربيع الجمهوري ومانويل فالس. تراجع حضور «المسيحيين اليساريين» الذين حملوا رؤية شاملة للحرية الدينية، وبات المدافعون عن العلمنة الشاملة أقلية يُنظر إليها أحياناً كـ«مفرطة التفاؤل».
مع ذلك، ثمة تيار فكري واضح: فيليب بورتِييه، فالنتين زوبر، جان بوبيرو، جان-لويس بيانكو، نيكولا كادين وغيرهم. بعد إنهاء «المرصد الوطني للعلمنة» عام 2021، أنشأ هؤلاء «مِرْقاب العلمنة» Vigie de la laïcité لتقديم خبرة قائمة على المعرفة والنقاش النقدي، خارج ارتباطٍ حكومي مباشر. هذا «الصوت الصامت» لا يدّعي امتلاك الحقيقة، لكنه يذكّر بأن العلمنة إطار قانوني معقّد لا شعار تعبئة.
يتقاطع جزء من الخطاب الحالي مع نزعة قومية تُقدّم الانسجام على التفرد. هنا يظهر خطر تحويل العلمنة إلى معيار مواطنة يقصي «غير المنسجمين»، مع ملاحظة أن «التجمّع الوطني» انتقل من الدفاع عن «فرنسا الكاثوليكية» إلى تبنّي العلمنة كمرتكز هوياتي (للاطلاع على خلفية ثقافية حول النزعة القومية لدى الحزب. في المقابل، ليست العلمنة فرادةً فرنسية: قانون كوبينو الإيطالي لعام 1877 كان أشد تقييداً، والدستور البلجيكي لعام 1831 رسّخ الفصل بين الزمني والروحي مع تمويل عام للعبادات، فيما يتيح قانون 1905 الفرنسي تمويل «المرشدين الدينيين» في مؤسسات عامة. حتى بريان استلهم نماذج الفصل المكسيكية والأميركية والبلجيكية.
استطلاع حديث لمعهد CSA يظهر تأييد 61% لحظر الرموز الدينية في الفضاء العام. هذا يعكس اتجاهاً يطلب من «الشارع» حياداً مفروضاً على «الدولة»، كأن الساحة العامة وزارة. مثل هذا الانزياح يعيد «تقديس» الفضاء العام على نحو يصطدم بروح 1789. وفي زمن الاستقطاب، يصبح الرجوع إلى المعرفة القانونية والتاريخية شرطاً لسياسة رشيدة.
حماية حياد الدولة وقيم الجمهورية لا تحتاج إلى توحيدٍ قسري ولا إلى تحويل العلمنة إلى عقيدة سلوكية. إنما تحتاج إلى قانون واضح يوازن بين الحرية والمساواة والأمن، وإلى نقاش عام يفرّق بين المدرسة والسياسة، وبين المواطنة والهوية، حتى لا تنزلق العلمنة إلى «تعاليم» تُستَخدم كبرنامج أيديولوجي عند أي تغيير سياسي حاد.