شهد التاريخ الأمريكي منذ نشأته الأولى تداخلاً عميقاً بين الدين والسياسة، حيث احتل البروتستانتية موقعاً محورياً في تشكيل الهوية الوطنية وصياغة المشروع السياسي للولايات المتحدة. كما أوضح برنامج "مسالك المعرفة" لإذاعة **فرانس كولتور** (10 سبتمبر 2003)، الذي قدمه جاك مونييه واستضاف الباحثة **إيزابيل ريشيه**، فإن فكرة "الأمة الموعودة" المستوحاة من النصوص التوراتية رافقت منذ البداية مشروع بناء الدولة الأمريكية، لتصبح لاحقاً خلفية دائمة للخطاب السياسي الداخلي والخارجي.
منذ القرن السابع عشر، شكلت الممارسات الدينية قاعدة تنظيمية للجماعة، حيث كان على السلطات ضمان احترام يوم الأحد باعتباره يوماً مقدساً. وفي القرن الثامن عشر، جاء ما يعرف بـ"النهضات الدينية" أو "الصحوات الإنجيلية" لتعزيز الإيمان ومواكبة الهجرات نحو الغرب، مستخدمةً أساليب اتصال جماهيري مبتكرة مثل المنشورات والتجمعات الكبرى، في ما يشبه إرهاصات الوسائط الحديثة للتبشير.
وخلال القرن التاسع عشر، تداخلت البروتستانتية مع التعليم والثقافة الرسمية، حيث كتب القساوسة المناهج الدراسية وهيمنوا على الجامعات قبل ظهور المؤسسات العلمانية الحديثة. لكن مع التحولات الكبرى التي رافقت الحرب الأهلية، ثم التصنيع والهجرة والتمدن، بدأت الهيمنة البروتستانتية تتعرض للاهتزاز، وبرزت تيارات فكرية جديدة. فقد ظهر ما يسمى بـ"الحداثيين"، الذين سعوا إلى التوفيق بين الإيمان والتغيرات الاجتماعية والعلمية مثل الداروينية، مقابل صعود "الأصوليين" الذين تمسكوا بالمرجعيات الحرفية ورفضوا الحوار مع الثقافة الحديثة، وهو الانقسام الذي ما زالت آثاره حاضرة حتى اليوم.
ويكشف السجل الفكري الأمريكي أيضاً، كما كتب **ألكسيس دو توكفيل** سنة 1831، عن مفارقة بين مظاهر التدين الصارمة والشكوك الكامنة داخل المجتمع. هذه الازدواجية تعمقت أكثر مع توسع الولايات المتحدة خارج حدودها. ففي لحظة "القدر المتجلي" خلال القرن التاسع عشر، اختلف البروتستانت بين من رأوا أن نموذج الجمهورية المثالي سيجذب العالم، ومن اعتبروا أن القوة العسكرية هي أداة تحقيق رسالة أوسع. هذا البعد الديني تكرر لاحقاً في الحرب الأمريكية-الإسبانية، ثم تراجع تدريجياً مع انقسام الكنائس خلال حرب فيتنام، حيث وقفت الكنائس البروتستانتية الليبرالية في مواجهة التدخل العسكري، بينما تمسكت تيارات محافظة بخطاب ديني–سياسي تبريري.
في مطلع الألفية الثالثة، ومع أحداث 11 سبتمبر، برزت بقوة تيارات "اليمين المسيحي" التي ربطت الهجمات بما اعتبرته "عقاباً إلهياً" لأمريكا، وهو خطاب اضطر حتى الرئيس جورج بوش الابن إلى النأي بنفسه عنه. غير أن تأثير هذا التيار ظل حاضراً في المعادلة السياسية، خاصة في الجنوب الأمريكي الذي بقي معقلاً للبروتستانتية المحافظة.
توضح إيزابيل ريشيه أن ما نشهده اليوم هو نوع من "علمنة الرسالة الأمريكية"، حيث يحتفظ الخطاب السياسي بلغة رسالية، لكنه يوظفها أساساً كخطاب داخلي يبرر تماسك الأمة أو يساند سياساتها الخارجية. ومع ذلك، تبقى العلاقة بين الدين والدولة في الولايات المتحدة خاصة ومركبة: دين حاضر بقوة في المجال العام، لكنه منقسم بين رؤى تحديثية تسعى لقراءة جديدة للتوراة والإنجيل، ورؤى صارمة تؤكد على الأصول وتدفع نحو سياسات محافظة.